الجمعة، 19 يونيو 2009

صناعة القاموس

صناعة القاموس الإعلامي

حتى الأسابيع الماضية، كان محجوبا عن الإعلام أن روسيا دولة نفطية. كان هذا الوصف لا تستحقه إلا الدول العربية المنتجة للنفط، إذ منذ أكثر من عقدين من الزمن، لم تتداول وسائل الإعلام العالمية سوى أن العرب هم الذين يحتكرون إنتاج النفط، وبالتالي فهم المسؤولون عن الصعوبات التي يجتازها المستهلكون. فجأة يظهر الآن أن روسيا دولة تنتج كميات كبيرة، إلى حد التأثير في أسعاره وخلخلة الأسواق. هذه الحقيقة لم تكن مجهولة ولكن كان يتم التعتيم عليها لكي لا تستأثر بالصفة إلا البلدان العربية المنتجة للنفط، ففي خضم اضطراب الأسعار في السوق العالمية ظهرت روسيا فاعلا يرجح الاتجاه إلى استقرار السوق أو اضطرابها، بسبب موقعها كمنتج كبير، وذلك بأن تتجه للمساهمة في تقليص العرض، أو الاستمرار في تغذية الأسواق بكميات مرتفعة. وها هي روسيا تقبل في الأخير حسب أخبار الثلاثاء، تقليص العرض، وتلبية نداء منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك).

هذا الأمر يهم السياسة النفطية، وفي الصفحات الاقتصادية من الجريدة تفاصيل عن تقلب المواقف، وتفاعل مختلف العوامل المؤثرة في هذا الاتجاه أو ذاك، ولكن ما يهم هو أن روسيا دولة نفطية رغم أن احتكار اللقب يبقى موقوفا على العرب. منذ حوالي 12 سنة كنت قد دعيت إلى الحديث عن صورة العرب في الصحافة البرازيلية، وذكرت في بحث قدمته لنقابة الصحافة هناك، أن تركيز صورة العرب كمنتجين للنفط، ينبع من رغبة غير بريئة في تقديمهم كمسؤولين وحدهم عن متاعب العالم. وقلت أمام اندهاش الحاضرين إن السعودية المصنفة في القاموس الإعلامي العالمي المتداول كدولة نفطية، قد صدرت القمح في تلك السنة إلى الاتحاد السوفياتي. وأنها ليست المنتج الأول في العالم، بل إن هذه المرتبة يتقاسمها كل من الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. لقد وقع التركيز على العرب الأشرار، الذين يتلاعبون بأعصاب العالم بسبب تحكمهم في سوق النفط، في وقت كان مرغوبا فيه حجب الحقائق الرئيسية المتعلقة بموضوع النفط، وتوسل مروجو تلك الصورة القبيحة للعرب، بأسلحة الإعلام، لتقديم العرب كابتزازيين يحكمون على البشرية بالعوز وتردي أحوال المعيشة، وكأناس لا يستحقون النعمة التي تحتضنها أراضيهم، وأخيرا كمجموعة من المبذرين الذين ينفقون بسفه على ملذاتهم. إن العرب ليسوا محتكرين للنفط، فهناك بلدان متعددة ومتنوعة منتشرة في مناطق كثيرة من العالم تنتجه، ولكن الصورة التي حكم الإعلام العالمي بأن تنتشر عن العرب هي أنهم وحدهم منتجون لهذه المادة. كما أن أكبر الأغنياء في العالم، وهم فئة لا تتورع عن الإنفاق بسفه في مختلف أوجه الإنفاق، والمرجع هي مجلة «فورتون»، ليس فيهم من العرب إلا نسبة ضئيلة جدا. وتكثر في الجرائد أخبار عن مباذل هؤلاء الأغنياء، ورعونتهم في الإنفاق، ولكن هوليوود لا تأتي إلا على العربي كصورة للمبذر.

إن الجدول السنوي الذي ينشره برنامج الأمم المتحدة للتنمية عن مؤشرات التنمية البشرية، يتضمن حقائق ناطقة بأن الدول العربية المنتجة للنفط تحسن استعمال مواردها في تحسين أحوال سكانها، بأفضل مما يتم في دول أخرى منتجة للنفط ولكنها توجد في مرتبة متدنية من حيث مؤشرات التنمية البشرية. فمن بين الدول الخمسين الأولى التي تتصدر الجدول المذكور كفئة ذات تنمية بشرية عالية، توجد أربع دول عربية نفطية، ولا توجد إلا دولة نفطية واحدة غير عربية هي الارجنتين. ثم إن الدول العربية النفطية، بعد أن أحسنت التصرف في ثروتها النفطية، لفائدة سكانها، بإتاحة فرص التعليم والخدمات الصحية، على خلاف غيرها من الدول المنتجة للنفط، ساهمت في المجهود العالمي للمساعدة على التنمية بنسبة أعلى بكثير جدا من المعدل العالمي المطلوب وهو 0.7 في المائة. وإن الدول الغنية ما تزال تتلكأ في تخصيص تلك النسبة من دخلها القومي لفائدة تنمية الدول الفقيرة، وفي أحسن الأحوال لم تتعد 0.36 في المائة، بينما وصل ما رصدته الدول العربية النفطية لفائدة تنمية الدول المحتاجة إلى 3 في المائة في بعض السنوات. وهذا مع ميزة هامة، وهي أن المعونات لفائدة التنمية التي تقدمها الدول العربية المنتجة للنفط، هي غير مشروطة باقتناء عتاد من الدول المانحة، كما هو الشأن بالنسبة للدول الغنية. إن إلصاق صفة «الدول النفطية» بالدول العربية هو من الحيل الإعلامية الماكرة التي نتعايش معها منذ ربع قرن تقريبا، حينما اتجه الإعلام الغربي إلى حرب على العرب فخلق صورة نمطية لهم قصد محاصرتهم في موقف دفاعي تجاه العالم المتضرر من أزمة النفط في السبعينات، وبغرض مصادرة حق الشعوب العربية جميعا في التحرر وفي التصرف في ثرواتها. وفي هذا السياق، جاء ابتكار عبارة «الإرهاب الإسلامي»، لكي يرتبط الإسلام بالإرهاب. وكما كشف ادوارد سعيد منذ عدة سنوات، فإن العنف الصادر عن الآيرلنديين لا يوصف بأنه كاثوليكي، وحرب الولايات المتحدة في فيتنام لا توصف بأنها كانت حربا مسيحية. إن المصطلحات التي يُقذف بها في السوق الإعلامية محبوكة بدرجة تكيف المتلقي لأن يتقبل بأن إرهاب حماس ليس إلا إسلاميا، بل يتم ذلك في إطار الخلط بين المقاومة والإرهاب. ويتم ترديد المصطلح بعد حشوه بمحتوى سلبي لكي يعبر من تلقاء نفسه عن صورة مرفوضة من لدن المتلقي تبعث على الاشمئزاز. وقد تركزت في الشهرين الماضيين حملة على السعودية، بنوع من الإلحاح، حتى أنه لا يُذكر اسم أسامة بن لادن إلا ويقرن بالتذكير بأنه مواطن سعودي. يتم هذا في كل قصاصات الوكالات وفي كل أخبار التلفزيون.

وفي كتاب بعنوان بن لادن «الحقيقة المحظورة»، صدر بالفرنسية مؤخرا، يجد القارئ أن هناك حرصا من الكاتبين على تركيز فكرة تقول إن الارتباط لم ينقطع بين السعودية وبن لادن. وفي هذا الكتاب الذي يستند أساسا الى شهادة يقدمها مسؤول في مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي عن تحرياته في موضوع بن لادن، نجد تعبيرا مرا عن غضب هذا المسؤول، وهو جون أونيل المنسق لمكافحة الإرهاب، على السلطات السياسية في بلده التي حرمته كما يقول من استقصاء الخيوط المؤدية إلى دور بن لادن في عمليتي الظهران وعدن، رغبة من حكومة بلده في محاباة الدول النفطية في الخليج. وقال إن السياسيين ألجموا تحرياته حول الهجومات التي تعرضت لها المصالح الأميركية في السعودية وعدن.

يذكر أن السفيرة الأميركية في عدن حالت بينه وبين الكشف عن هوية مدبري العمليات الإرهابية في نطاق هذه السياسة. وأما بخصوص السعودية، فإنه يشكو من أن سلطات الرياض تمسكت بقوة بأن يقوم بالتحقيق فقط موظفوها المخولون بذلك، وكانت تمتنع من أن تسمح لغير موظفيها بالتحقيق مع المتهمين، بينما اكتفى رجال مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي بتجميع القرائن المادية المساعدة على تقدم التحريات في عملية الظهران سنة 1996.

وهناك سابقة أخرى، وهي تمسك المصالح السعودية المختصة بالتحقيق في عملية إرهابية جرت في الرياض التي ظهر أنها ليست «إسلامية» بل تبين بعد التحقيق أن المسؤولين عنها أشخاص غربيون، نشرت صورهم وأسماؤهم. وحرصت السعودية، في تلك العملية كذلك، على أن تقوم مصالحها المختصة وحدها بالتحقيق. إلى مثل هذه المواقف يجب أن نرجع الحنق الذي عبرت عنه الصحافة الأميركية تجاه السعودية، فضلا عما سبق ذلك من مواقف واضحة على إثر فشل محادثات كمب ديفيد بخصوص القضية الفلسطينية. و يجب أن نفهم أن تلك المواقف، على الخصوص، هي التي فجرت حملة التحامل على السعودية في الصحافة الغربية عموما، مما أدى بالكاتب الاميركي توماس فريدمان إلى أن يخصص إحدى مقالاته عن المناهج التعليمية في المملكة العربية السعودية باعتبارها مفرخة للفكر الإرهابي. هذا التعامل لا يعدو أن يكون نوعا من الابتزاز والضغط من أجل التسليم بوجهة نظر معينة يراد تركيزها. إن الإعلام هو واجهة من واجهات الحرب السياسية والعسكرية، والأداة اليومية المستعملة في هذه الحرب هي هذا القاموس المتداول الذي يُلقى به في السوق الإعلامية، ويقع شحذه وتكراره بإلحاح قصد تركيز صورة سلبية للعرب والمسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

شاركنا برأيك